السبت، 23 أكتوبر 2010

قصة الإفك وموقف الإسلام منه

 بسم الله الرحمن الرحيم
قصة الأفك وموقف الإسلام منه

إن الأنبياء والمرسلين ، هم خيرة خلق الله جميعاً وأسماهم منازل ، وأكرمهم حسبأ ونسباً ، وأكملهم خلقاً وخلقا .
فهم في الخلق أكمل الناس خلقاً وأحسنهم صورة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن موسى كان رجلاً حَييْا ستيرا ، لا يرى من جلده يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده : إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرأه مما قال لموسى ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل ، فلما فرغ ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه عرياناً أحسن مما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله بالحجر لندبا من أثر ضربه ، ثلاثاً ، أو أربعاً أو خمساً فذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً } ([1] ) ] .
ويعلق ابن حجر قائلاً : وفي الحديث ، أن الأنبياء في خلقهم وخلقهم على غاية الكمال ، وان من نسب نبياً إلى نقص في خلقته ، فقد آذاه ، ويخشى على فاعله الكفر ( [2] ).
وكان ذلك كذلك لأنهم اختيار الله تعالى واصطفاه { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ( [3] ) { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ } ( [4] ) { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } ( [5] ) وعن صفة نبي الله عيسى يقول نبينا صلى الله عليه وسلم [ ليس بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رايتموه فاعرفوه ، رجل مربوع ، إلى الحمرة والبياض ممصرتين – ثوبين فيهما صفرة خفيفة – كان رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل ] ( [6] ) أما عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقية ، فقد وصفه من رآه من أصحابه فقالوا : ( كان أحسن الناس ، ربعة إلى الطول ما هو ، بعيد ما بين المنكبين ، أسيل الخدين ، شديد سواد الشعر ، أكحل العينين ، أهدب الأشفار ، إذ وَطَـَ ءَ بقدمه ، وَطَ ءَ بكلها ، ليس له أخمص ، إذ وضع رداءه عن منكبيه ، فكأنه سبيكة فضة ) ( [7] ) .
وأما عن الكمال الأخلاقي للأنبياء فإن في القرآن عشرات الآيات التي يثنى عليهم من الله جل وعلا ، فهذا نبي الله نوح يصفه ربه بأنه عبد شكور لله جل وعلا فيقول : [  ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ] ( [8] ).
وعن إبراهيم عليه السلام يقول : [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ] ( [9] ).
ويقول عن كوكبة من الأنبياء : [ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ ] ( [10] ) .
وقال إسماعيل عليه السلام : [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ] ( [11] ) .
ووصفت ابنة العبد الصالح موسى فقالت : [يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ] ( [12] ) وقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ] ( [13] ) .
وقال : [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ] ( [14] ) .
وقال : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ] ( [15] ) .
وكان صلى الله عليه وسلم خير الناس حسباً ونسباً ، بل كان خير قرون بني آدم على الإطلاق :
قال صلى الله عليه وسلم {أنا محمد بن عبد المطلب إن لله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم جعهلهم فرقتين ، فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل ، فجعلني خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتاً ، فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً } ([16] ).
ويقول صلى الله عليه وسلم :{ بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا،حتى كنت من القرن الذي كنت منه} [17] 
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم – وكذا الأنبياء – أعبد الناس وأخشاهم لله تعالى .
فقد أثنى عليه ربه بذلك في أشرف المقامات وفي أعلى الدرجات فقال : {  فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ( [18] ) .
وأثنى عليه بأنه العبد الكامل في العبودية في تنزيل الكتاب عليه فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } ( [19]) .
وفي مقام الإسراء قال :
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } ( [20] )
وفي مقام الدعوة يقول :
[وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ] ( [21] )
هذا العبد الأصيل والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، بشر برسالته الأنبياء السابقون ، بل هو عند الله رسول كريم ، إذ كان آدم عليه السلام منجدلاً في الطين .
قال صلى الله عليه وسلم : {   إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري ، دعوة إبراهيم ، وبشارة عيس ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني ، وقد خرج لها نور أضاء لها منه قصور الشام } ( [22] ).
دعوة إبراهيم وإسماعيل حين كانا يبنيان بيت الله الحرام :
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}( [23] )
وبشارة أخيه عيسى عليه السلام
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } ( [24] ) .
وبشارة أخيه موسى عليه السلام :
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } ( [25] ) .
يقول دنيال : سألت  الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون لي ما يكون من بني إسرائيل ، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ، ويبعث فيهم الأنبياء ، أو يجعل ذلك في غيرهم ؟
فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه فقال : السلام عليك يادنيال ، إن الله يقول : إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا عليّ ، وعبدوا من دوني آلهه أخرى وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ، ومن بعد الصدق إلى الكذب ، فسلطت عليهم بختنصر ، فقتل رجالهم وسبى ذراريهم ، وهدم مساجدهم ، وحرق كتبهم ، وكذلك فعل من بعده بهم ، وأنا غير راض عنهم ولا مقيلهم عثرات ، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول ، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط ، فلا يزالون ملعونين ، عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسرائيل الذي بشرت به هاجر ، وارسلت إليها ملاكي وبشرها وأوحي إلى ذلك النبي ، وأعلمه الأسماء ، وأزينه بالتقوى ، وأجعل البر شعاره ، والتقوى ضميره ، والصدق قوله ، والوفاء طبيعته ، والقصد سيرته ، والرشد سنته ، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب ، وناسخ لبعض ما فيها ، أسري به إليّ وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو ، فأدينه ، وأسلم عليه ، وأوحي إليه ، ثم أراده إلى عبادي بالسرور والغبطة ، حافظاً لما استودع ، صادقا فيما أخبر ، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة ، لافظ ولا غليظ ولا صاخب الأسواق رءوف بمن والاه رحيم بمن عاداه ، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي ويخبرهم بما رأى من آياتي ، فيكذبونه ويؤذونه ( [26] )
والأنبياء جميعاً معصومون من الكبائر ، فلا يتقولون على الله ولا يخالفون له أمراً ، ولا يكتمون وحياً ، ولا يرتكبون فحشاً ولا أمراً ، ولا تنحني جباهم إلا لله ، ولا يعبدون سواه .
ومع ذلك فإن اليهود ، وصفوا أنبياءهم بما لا يليق حتى إن المسيح وأمه – عليهما السلام – لم يسلما من اتهاماتهم الباطلة ، ولكن الله تعالى برأها ووصفها بعظيم الصفات فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } ( [27] ).
أي اختارك وطهرك من الكفر وسائر المعاصي والأدناس واصطفاك حيث تقبلك بقبول حسن ، كما أنه سبحانه اصطفاك واختارك لولادة ذلك النبي عليه السلام وبذلك تكونين سيدة نساء عالمك. وأنزل الله تعالى سورة كاملة بإسمها في القرآن تسمى ( مريم )
ووصفها الله فيها بما يأتي :
1-    أنها لشرفها وطهارتها ذكرت في القرىن ، ولم يذكر بالاسم من النساء سواها.
2-    أنها المرأة الوحيدة التي ولدت نبيا دون زواج لتكون آية هي وابنها على قدرة الله .
3-    أنها المرأة الفضلى ، التي نادت بعدم الاختلاط بين الرجال والنساء ، لما يترتب على ذلك من البلاء والاباحية الماجنة .
4-  أنها المرأة التي نادت بتحريم الزنا والبغاء في عصر كانت الرض ومن فيها يجار إلى رب الأرض والسماءلتخليص البشرية من وباء هذا الداء الذي انتشر في الكبراء من اليهود ومن تابعهم من الأذلاء .
5-  أنها العذراء التي لجأت إلى ربها ليحميها ويحمي عذريتها وشرفها فقالت للملك ، إن كنت من الأنقياء الذين يخافون من الرحمن فلا تقربني بسوء.
6-  أنها كانت أمة في الحياء ، حيث تمنت الموت ، عندما ألجأها المخاض إلى جذع النخلة ، تمنت الموت حياء من التهمة ، فهل هناك من بنات حواء اليوم مثلها ؟ وهل هناك من بنات القرن العشرين من يضارعها .
7-  آمنت – عليها السلام – بالأخذ بالأسباب ، فاستمعت إلى نصائح الملك بهز الجذع ، فهزت ، فتساقط الرطب عليها فأكلت وتهنت ، وشربت من السري فهدأت نفسا ، وعينها قرت ، وصامت عن الكلام لينطق المسيح بما تمنت ، من توحيد الإله الذي صامت له وصلت ، شكراً لها على تبرأتها من الفحش الذي إليه يوماً وما تدنت ، وإذ عانا لأمره تعالى الذي وهبها نبياً من أولي العزم ، فصلي الله عليه وسلم .
8-  ووصفها ربها تعالى بأنها التي أحصنت فرجها بالعفاف من الفاحشة فأكرمها ربها بنبيه عيسى عليه السلام ، حيث حملت به وولدته دون زواج ليكون للعالمين آية على قدرة الله ووحدانيته فقال مادحاً :
[ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ] ( [28] ) .
ووصفها الله في سورة التحريم بعدة صفات :
1-    وصفها بالإيمان برب العالمين ، حيث ضربت مثلاً هي وزوج فرعون على أنهما من جماعة المؤمنين .
2-  والمقصود من ذكرها ، أن الله تعالى جمع لها بين كرامة الدنيا والأخرة ، واصطفاها على نساء العالمين ، مع كونها بين قوم كافرين .
3-    وصفها هنا وللمرة الثانية بأنها أحصنت فرجها عن الفواحش والأرجاس ، فكانت للعفائف قدرة وللطاهرات أسوة .
4-  وصفها رابعاً : بأنها لا تفرق بين رسل الله ولا تدعو إلى عصبية مقيتة ، ولا إلى فتنة مميتة ، بل صدقت بشرائع الله المتقدمة التي شرعها لعباده ، وصدقت بكتبه التي أنزلها على أنبيائه .
5-  ووصفها خامساً : بأنها كانت لربها مطيعة ، ولعظمته ساجدة خاشعة ، فهل هناك بعد هذا البيان من يقول إن الأمة المسلمة أمة متعصبة وللإرهاب راعية ؟
قال تعالى : [وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ ] ( [29] ) .
وكما طهر الله الأنبياء من الفواحش ، طهر كذلك آباءهم وأمهاتهم ونساءهم ، فما بغت امرأة نبي قط ، حتى من كفر بالله منهن . وهذا هو إجماع من المسلمين سلفاً وخلفاً .
وقد خرجنا في بحثنا هذا من قبل قوله صلى الله عليه وسلم :
" لا يدخل الجنة ديوث " وهو الذي يقر الخبث في أهله .
وقوله صلى الله عليه وسلم " أتعجبون من غير سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني " من أجل ذلك حرم  الفواحش ما ظهر منها ومابطن .
ولكن وجد من المنافقين . الذين لا يؤمنون في الباطن بشرع ولا دين من يبتدع التهم للأبرياء من المؤمنات والمؤمنين وذلك لحقدهم الدفين ، وتجردهم من الإيمان الذي دعا إلى إحسان الظن بالمسلمين ، وإلى التثبت واليقين حتى في الحديث عن من لم يعلن بفسقه من الفاسقين الذين تحوم حولهم الشبهات من جيرانهم الأدنين والذين يخالطوهنهم بين الحين والحين ، فكيف بزوج خيرة الناس أجمعين ، سيدنا رسول الله الصادق الوعد الأمين الذي ما تزوج بعائشة إلا بناء على أمر من الله رب العالمين فقد روى مسلم بسندهعن عائشة – رضي الله عنها . قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أريتك في المنام ثلاث ليال ، جاءني الملك في سرقة -  قطعة – حرير - ، فيقول : هذه امرأتك فاكشف عن وجهك ، فإذا أنت هي ، فأقول : إن يك هذا من عند الله يمضه " ( [30] )
عائشة هذه بنت أفضل رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه صلى الله عليه وسلم : " إن من امن الناس على في صحبته وماله ، أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ".
عائشة هذه هي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ، وأحباؤه من الرجال أبوها .
سأل عمرو بن العاص رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ قال : ( عائشة ) قال : فمن الرجال : قال : ( أبوها ) ( [31] ) .
ولقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا دينيا وصرح لنسائه بذلك وأن منزلة عائشة وتكريمها بأمر الله.
روى البخاري ، أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، قالت – رضي الله عنها - : فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن : يا أم سلمة ، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، وإن نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان ، أو حيثما دار قالت : فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت فأعرض عني ، فلما عاد إلي ، ذكرت له ذلك فأعرض عني ، فلما كان في الثالثة ذكرت له .
فقال : " يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل على الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن            غيرها " ( [32] )  
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يسابقها وتسابقه ويباسطها ويحنو عليها :
تقول – رضي الله عنها : - " سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء حتى إذا رهقني اللحم ، سابقني فسبقته ، فقال : يا عائشة هذه بتلك " ( [33] ) .
ولقد كانت- رضي الله عنها – محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حباً جماً حتى في قمة غضبها ، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم 1لك ، فيقول لها يوما :
" إنني لأعلم إذا كنت عني راضية ، وإذا كنت علي غضبى فقلت : ومن أين تعرف ذلك ؟
قال : أما إذا كنت عني راضية فتقولين : لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى ، فقلت : لا ورب إبراهيم ، قالت عائشة : فقلت : أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك " ( [34] ).
وعائشة – رضي الله عنها – زوجة النبي صلى اله عليه وسلم في الدنيا والأخرة .
قال لها يوما : "... أما ترضين تكوني زوجتي في الدنيا والأخرة ؟ قلت : بلى والله ، قال فأنت زوجتي في الدنيا والخرة " ( [35] ) .
ومن هنا كان دور المنافقين ، فلم يكفهم ما وجوه إلى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم من أذى ، فبدؤوا في صنع مؤامرة خبيثة ، ضد ام المؤمنين ، كما فعل اليهود مع العذراء البتول . فكانت قصة الإفك ، وكانت البراءة من السماء وكانت الآداب والتعاليم الواجب على الأمة اتباعها . قال تعالى :
[إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] ( [36] ) .
أولا : سبب النزول :
روى البخاريومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها ، خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت : أقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب ، فانا أحمل في هودجي وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، دنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني إقبلت على رحلي ، فإذا عقدُ لي من جزع ظفار ( [37] ) قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني إبتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي ، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت ، وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفاجا ( [38] ) لم يثقلهن اللحم إنما نأكل العلقة ( [39] ) من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي ن فبينما أنا جاسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني ، من وراء الجيش فأدلج ( [40] )  فأصبح عند منزلي فرأي سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين ([41] ) في نجر الظهيرة فهلك من هلك .
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول .
فقدمن المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك وانا لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول : " كيف فيكم ؟ " ثم ينصرف ، فذلك الذي يريبني ، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت ، فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة ، فأقبلت وأنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها ( [42] ) فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها ، بئس ما قلت ، أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ ، قالت : أي هنتاه ( [43] ) أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت وما قال ، فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : " كيف فيكم ؟ " قلت أتأذن أن آتي أبوي ؟ قلت : وأنا حينئذ أريد أن أستقين الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت يابنيتي هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت : فقلت : سبحان الله ، ولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ ( [44] ) لي دمع ولا اكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث ([45] ) الوحي يستأمرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود ، فقال : يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيراً وأما علي بن أبي طالب ، فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم " بريرة ، هل رأيت من شىء يريبك ؟ قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليه شيئا أغمصه ( [46] ) عليها ، أكثر من انها جارية حديث السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن ( [47] ) فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن المسلمين من يعذرني ( [48] ) من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله ، أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوسي ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : فقام يعد بن عبادة وهو سيد الخزرج – وكتن قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ( [49] ) – فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن خضير ، وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيان الأوس والخزرج ، جتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
قالت ، فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت : فأصبح أبواي عندي وقد بكيت بكيت ليلتين ويوما ، لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع ، يظنان ان البكاء فالق كبدي ، قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت على امرأة من النصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، قالت ، فبينما نحن على ذلك ، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم جلس ، قالت ، ولم يجلس عندي من قيل ما قيل قبلها ، وقد لبثت شهراً لا يوحى إليه في شأني .
قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال : " أما بعد : يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فغستغفري الله ، وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله ، تاب الله عليه " قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قلص دمعي حتى ما أحس من قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال : قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
قالت : فقلت ، وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيراً من القرآن : إني والله لقد علمت ، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلتم لكم : إني بريئة ، والله يعلم اني منه بريئة ، لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدقوني بذلك ، والله لا أجادلكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال : [  وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ] ( [50] ) ، قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت : فوالله ما رام ([51] ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى انزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء([52] ) ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان ( [53] ) من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي ينزل عليه .
قالت : فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سري عنه وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها ، يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك ، فقالت أمي : قزمي إليه ، قالت : فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، وأنزل الله عز وجل : [ إن الذين جاءوك بالإقك ..... ] العشر آيات كلها ، فلما انزل الله هذا في براءتي ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه زكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئاَ أبداً ، بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله تعالى : [وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] ( [54] ) قال أبو بكر : بلى ، والله إني أحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطع النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ابنة جحش عن أمري ، فقال : يا زينب ، ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيراً .
قالت : وهي التي كانت تساميني ( [55] ) من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت في من هلك من أصحاب الإفك ( [56] ) .
صلة هذة الآيات بما قبلها :
في الآيات السابقة حدثتنا السورة الكريمة عن الزنا وأخطاره وبينت حده وأركانه ، وأنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة ان يتزوج من كان هذا الصنيع شأنه وعنوانه ، ثم بينت خطر رمي المحصنات بالزنا ، بأنه عدم قبول شهادة الرامي وتقبيح سائر أقواله ، بعد الجلد المؤلم ليذوق وبال أمره ، جزاء ما اتهم به المؤمنات بسوء أقواله ، وليبق بعد ذلك فاسقا متجاوزا إلا أن يتوب ويصلح حاله .
فكأنه ما مضى من آيات ، كان توطئة ومقدمة لقصة الإفك التي وقعت لخير النساء ، الصديقة بنت الصديق .
المراد بالإقك :
الإفك : أسوأ الكذب ، وهو الذي لا يثت ، ويضطرب ومنه : ائتفكت به الأرض قال تعالى : [أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ] ( [57] ) أي : أتريدون آلهة آفاكين ، أو ذوي إفك .
والأفاك : الكذاب ، والإفك : الزور وقلب الحقائق عن حالها بالأقوال ، وصرفها عن جهة الصواب ، وبذلك شبه بالكذب ( [58] ) .
فيكون المعنى : إن الذين جاءوا بأبلغ ما يكون من الكذب وقيل : هو البهتان ، لا تشعر به حتى يفاجئك ، والمراد به : ما أفك به الصديقة ، أم المؤمنين رضي الله عنها ، فاللام فيه العهد ، ويجوز حمله على الجنس ، قيل : ويفيد القصر ، كانه لا إفك إلا هو ، وفي لفظ ( المجيء ) إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل ( [59] ) .
وها هو ديدن المنافقين في كل عصر وحين ، ألم يقولوا لرسول الله طيلة حياتهم ، إنا نشهد إنك لرسول أمين ، والله يعلم أنهم كانوا كاذبين فهم يقولون ، إنا نشهد إنك لرسول أمين ، والله يعلم أنهم كانوا كاذبين فهم يقولون ذلك ليعيشوا آمنين ولكن الله فضحهم على مرأي وسمع من العالمين .
في وصف الكذب بالإفك فوائد :
وإنما وصف الله تعالى ذلك الكذب بكونه إفكا ، لأن المعروف من حال عائشة رضي الله عنها خلاف ذلك لوجوه :
الأول : أن كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم ، يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستضعفوهم ، فوجب ألا يكون معهم ما ينفرهم ، وأعظم المنفرات ، لإذا كان معهم زوجات مسافحات ، بخلاف ما لو كانت تلك الزوجات كافرات ، لأن الكفر ليس من المنفرات .
الثاني : لقد كانت عائشة رضي الله عنها قبل ذلك الاتهام مثالاً للطهر والصوان والعفاف ، والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن كان كذلك ، فحسن الظن به واجب .
الثالث : ان القاذفين من المنافقين ، الحاقدين ومن المعلوم أن كلام الأعداء ضرب من الهذيان ، بل هو من كلام المجانين ، فلمجموع هذه القرآئن فسدت خطة المنافقين ، وبرأ الله أمنا ام المؤمنين رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين ( [60] )
من هم هؤلاء الذين جاءوك بالإفك ؟
القرآن الكريم لا يهتم كثيراً بذكر الأسماء ولا البلدان ، وإنما يهمه من ذكر الأحداث : العبرة والاتعاظ وإن كان في ذلك حاجة فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع ، ومن بعده أصحابه الذين عاصروا تلك الأحداث قال ابن منظور : والعصبة والعصابة : جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين ، وفي التنزيل [وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ] [61]  ، قال الأخفش : العصبة : جماعة ليس لها واحد ( [62] ) .
ذكر القرآن الكريم أن الذين جاءوا بهذا الأمر الجلل هم عصبة وجماعة ، اعصوا واجتمعوا على ذلك الإفك ، هم عشرة أو أقل ، أجمع المفسرون على هؤلاء : عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق – زيد بن رفاعة – حسان بن ثابت – مسطح بن أثاثة – حمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم في ذلك .
قال تعالى : [ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة ] هم عصبة ( منكم ) أي : من المؤمنين ، لأن عبد الله بن أبي ، كان يظهر الإيمان ، ويبطن الكفران والله أعلم بباطن الإنسان . وروي عروة عن عائشة ، أنها قالت : هم أربعة :
حسان بن ثابت ، وعبد الله بن أبي ( بن سلول ) ومسطع بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ( [63] ).
وروي عن عائشة رضي الله عنها : والذين تولي كبره ) قالت : عبد الله بن أبي ( [64] ) .
والذي أراه : أنه بالبحث الدقيق في كتب السنة والسيرة لم نعرف لم نعرف إلا هذه الأسماء ، وأن زيد بن رفاعة لعله في الغالب ابن رفاعة بن زيد ، كان من المنافقين وكان عبد الله بن أبي رأسهم أما مسطع ، وحسان ، وحمنة ، فكانوا من المؤمنين ، ولكنهم خدعوا بكلام المنافقين ، وخاضوا في حديث الإفك ، على خطأ منهم وضعف ( [65] ) .
في الابتلاء فوائد وخير كثير :
الابتلاء من سنن الله الكونية في هذه الحياة ، ولذلك يقول تعالى : [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ] ( [66] ) فالله تعالى يبين هنا أنه تعالى قد ابتلى المكلفين بأمرين .
الأول : ابتلاهم بنعم الدنيا ولذائذ الحياة ، وقوة الأبدان وسلامتها من الداءات ، حتى يتمكنوا من المرادات لهم من الطيبات .
والثاني : انه تعالى ابتلاهم بمضار الحياة ، وآلام الأبدان وقلة المال وأنواع الشدائد ، وأنه تعالى أراد ذلك وقدره ، اختباراً وامتحاناً ، فمن شكر فإن الرجوع إلينا ، فنوفيه جزاءه ونعيمه ، ومن كفر ، فلن يفوتنا وإلينا منقلبه ، فنزيده من أليم العذاب وسوء المقيل .
وبين لنا القرآن الكريم ، أن أيوب ويوسف ، وعيسى وغيرهم من الأنبياء تعرضوا للبلاء ، وهم أكرم الخلق على الله .
فقال عن أيوب : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } ( [67] ) .
وقال عن يوسف : { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } ( [68] ) وعن النتيجة قال : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ } ( [69] ) وعن عيسى قال : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } ( [70] ) وعن النتيجة قال : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ..... } ( [71] ) بل لقد كان بلاء الأنبياء أشد أنواع البلاء .
يقول صلى الله عليه وسلم ، وقد سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ " قال الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلي الرجل على حسب دينه ، فإن كان دينه صلباُ ، اشتد بلاؤه ، وان كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد ، حتى يتركه يمشي على الرض ما عليه خطيئة " ( [72] )
ومن هذاالمنطلق ، ولما اشتد بلاء أم المؤمنين ، بل وآل أبي بكر جميعاً ، قال الله تعالى : { لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم }
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى : { لا تحسبوه شراً لكم } يا آل أبي بك { بل هو خير لكم } في الدنيا والخرة لسان صدق في الدنيا ، ورفعة منازل في الخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث انزل الله براءتها في القرآن العظيم الذي : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( [73] ) ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنهما ، وهي في سياق الموت : قال لها : بشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك ، وأنزل براءتك من السماء [74]
قال محمد بن عبد الله بن جحش : تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما ، فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجي من السماء ، قال : وقالت عائشة : انا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة ، فقالت لها زينب : يا عائشة ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت حسبي الله ونعم الوكيل ، قالت : قلت كلمة المؤمين ( [75]) ومن الخير الذي أصاب الجماعة المسلمة : تهدئة أعصابهم وتماسك بنيانهم ، وخيبة أمل المنافقين ، وفضح أمرهم .
ومن الخير : نص القرآن على طهارة البيت النبوي وشرف من فيه ، وكذلك طهارة أبي بكر وآل بيته الطيبين الطاهرين .
ومن الخير : إثبات عدالة المجتمع الإسلامي بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان قادراً على الإطاحة بهؤلاء المرجفين وإساءلة دماء أولئك الأفاكين ن ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل لأنه رحمة للعالمين ، والفتنة نائمة ، وقد اخبر أن من أراد إشعالها فهو من الملعونين ومن ثم فليصبر حتى يحكم خير الحاكمين .
ومن الخير : إعلاء الإسلام لشأن القرابة ووصلها حتى وغن بدت منها السعاية ، بالشر وسوء المقالة ، لا سيما الفقراء منها ، ومن كانت به زمانة ، فهذا خلق المسلمين الأوائل ، وهؤلاء هم الصحابة .
ومن الخير : إثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كتم من الوحي شيئاً ، ولو فعل لكتم كل ما يتعلق بهذه القصة .
وفي النهاية : لا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الغيب إلا بإعلام الله له ، وذلك حتى يتعظ أولئك الجاهلون الذين يحيطون أنفسهم بفريق من المغفلين الذين يصفونهم بصفات جلها كفر بواح ، ومعظمها فسق صراح ، حتى أنه يوجد في محيطنا من يختلط بالنساء الطالبات للبركة وقراءاة الغيب ، وهل ما في أرحامهن ذكر او أنثى وهل شقي أو سعيد ، أو ذكي أو بليد ، بل إن هناك من يصرخ في الجموع الغفيرة من المسلمين ، ويتنحى عن مكانه بين المصلين ، بحجة ان الرسول صلى الله عليه وسلم قادم ليؤم المسلمين ، ويدوي الصراخ والبكاء والعويل ، وتقبل الأيدي ، والأرجل ، وتجبي الأموال وتحمل المناديل ، لتجفيف عرق الشيخ المين ويحمل البعض حذاءه ، تبركا وتشبها بابن مسعود صاحب انعل رسول رب العالمين ، فاتقوا الله يا شباب الأمة واعلموا أن ذلك كله من توجيهات الشياطين ، الذين يأمرونكم بالغلو والجهل ، كما فعل قوم نوح حتى خرجوا من الدين ، فكانوا مثلاً سيئا لمن يأتي بعدهم من المغفلين .
وعيد وإنذار :
توعدت الآيات بعد ذلك بالعذاب العظيم من خاض في الإفك ، وبخاصة من أذاعه وبدأ فيه فقال تعالى : { لكم لكل امرئ منهم ما اتسب من الإثم } أي : لكل امرئ من تلك الجماعة جزاء ما اتكسبوه ، من المذمة وإقامة الحد عليهم في الدنيا ، والعقاب الليم في الأخرة لأن ما قاموا به من نشر قالة السوء في أم المؤمنين أمر عظيم ، لذا كان العقاب في الأخرة أعظم والحساب عسيراً والطامة عليهم كبيرة .
من الذين بدأ بالإشاعة وتولي معظم الإفك :
قال تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم }. تنوعت القراءات في قوله :( كبره ) فقرأ يعقوب بضم الكاف ( كبره) ، وهي قراءة : أبي رجاء وحميد بن قيس ، وسفيان الثوري – ويزيد بن قطيب ، وعمرة بنت عبد الرحمن .
وقرأ باقي العشرة بكسرها ( كبره ) .
وفي معنى قراءة الكسر ، قولان :
1-    البداءة بالإفك : والمراد : الذي تولى البداءة بالإفك .
2-    الإثم : والمراد : الذي تولى الإثم في حديث الإفك .
ومعنى القراءة بالضم : معظمه ، والمراد : الذي تولى معظم الإفك .
وقد أفادت الآية بالقراءتين معا ، الوعيد الشديد لمن تولى الإثم ، وبدأ بإشاعته ، وتولى معظمه ، وكل هذه المعاني لا تمانع بينها ( [76] ) .
من هو المتولي كبر الإفك ؟
الذي في الصحيح : هو عبد الله بن أبي بن سلول ، فعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( والذي تولي كبره ) عبد الله بن أبي ( [77] ) .
ويقول ابن الجوزي : وفي المتولي لذلك قولان :
أحدهما : أنه عبد الله بن أبي ، روي عن ابن عباس ، وعروة عن عائشة ، وبه قال مجاهد والسدي ومقاتل قال المفسرون : هو الذي أشاع الحديث فله عذاب عظيم بالنار ، وقال الضحاك : هو الذي بدأ بذلك .
والثاني : أنه حسان ، روى الشعبي ان عائشة قالت : ما سمعت أحسن من شعر حسان ، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، فقيل : يا أم المؤمنين أليس الله يقول : { والذين تولى كبره منهم له عذاب عظيم } فقالت : أليس قد ذهب بصره ؟ وروي عنها مسروق أنها قالت : وأي عذاب أشد من العمي ، ولعل الله أن يجعل العذاب العظيم ، ذهاب بصره ( [78] ) .
ولكن الذي نراه ويتفق وتاريخ حسان المشرف في الدفاع عن الإسلام أنه ليس المراد بهذا الوصوف أليس هو القائل لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
هجوت محمداً فأجبت عنه             وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي               لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء                فشركما لخيركما  الفداء
لساني صارم لا عيب فيه              وبحري لا تكدره الدلاء ( [79] ) ،
وفي النهاية يقول ابن جرير رحمه الله : وأولي القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : الذي تولي كبره من عصبة الإفك ، كان عبد الله بن أبي ، وذلك انه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، ان الذي بدأ بذكر الإفك ، وكان يجمع أهله ويحدثهم ، عبد الله بن أبي بن سلول ( [80] )
ويقول المودودي : والمراد بـ ( والذي تولي كبره ) عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وحامل لواء الكيد ، فهو الذي تولي كبر هذا الإفك وقاد حملته ، واضطلع منه بالنصب الأوفي .
وقد جاء اسم حسان بن ثابت بدل عبد الله بن أبي في بعض الروايات ... ولكن ليس ذلك إلا خطأ من الرواة ، وإلا ، فما كان ضعف حسان ، أكثر من وقوعه في الفتنة التي ما دبرها إلا المنافقون ( [81] )
وما أصدق ابن كثير رحمه الله إذ قال في تفسيره :
وقيل : بل المراد به حسان ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك ، لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هاجهم وجبريل معك " ( [82] )
هل جلد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الإفك أحداً ؟
روى أنه صلى الله عليه وسلم ، جلد في الإفك ، رجلين وامرأة ، وهم : مسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش .
وقيل : جلد عبد الله بن أبي ، ولم يجلد مسطحا ، لأنه لم يصرح بالقذف ، ولكن كان يسمع ويشيع دون تصريح وقيل : لم يجلد أحداً .
والمشهور من الأخبار ، والمعروف عند العلماء ، أن الذين حدوا هم : -
حسان ، ومسطح ، وحمنة ، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي ( [83] ) .
ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : " لما نزل عذري ، قام النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ، أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم ، وسماهم : حسان ، ومسطع ، وحمنة بنت جحش ( [84] ) "
آداب وزواجر كان يجب ان تراعى حول هذه القصة :
الأدب الأول :
وهو قوله تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } ( [85] ) .
( لولا) معناه : هلا ، وهذا كثير في اللغة ، إذ كان يليه الفعل، كقوله تعالى : { لَوْلا أَخَّرْتَنِي } ( [86] ) وقوله سبحانه : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } ( [87] ) .
فأما إذا تليها الإسم ، فليس كذلك ، كقوله تعالى ك { لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } ( [88] ) { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ( [89] ) .
ظن المؤمنين :
الظن هو اليقين الذي لا شك فيه ، كما في قوله تعالى : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ( [90] ) وقوله تعالى : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } ( [91] ) { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } ( [92] ) .
فالظن هنا بمعنى اليقين الذي لا توهم معه ، ولا خيال .
( بأنفسهم ) وذلك باعتبار أن المؤمنين جميعا كنفس واحدة فإذا ظن مؤمن بأخية خيراً ، فقد مدح نفسه وزانها وجملها . يقول الرازي : والمراد : كان الواجب على المؤمنين إذا سمعوا قول القاذف أن يكذبوه ، ويشتغلوا بإحسان الظن ، ولا يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيه الطهارة ( [93] )
وكان الواجب عليهم أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات المر على أنفسهم ، فإذا كان ذلك يبعد فيهم ، فكانوا يقضون بأنه في صفوان وعائشة رضي الله عنهما ، أبعد لفضلهما وطهارتها .
وقد وقع هذا من أبي أيوب الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما ، وذلك أنه دخل عليها ، فقالت له : يا أيوب ، أسمعت ما قيل ؟ قال نعم ، وذلك الكذب ، أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ؟ فقالت : لا والله ، قال فعائشة والله أفضل منه ، قالت أم أيوب : نعم ( [94] ) .
هلا فعلوا ذلك ، وقالوا : هذا الذي سمعناه من رمي الحصان الرزان ، ( إفك ) كذب واضح وافتراءين .
ولم تقل الآية الكريمة : لولا إذ سمعتموه ظننتم بانفسكم ، ولكنها عدلت عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ، وكان ذلك كذلك ؟
ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق مؤمن على أخيه ، ولا مؤمنة على أختها ، قول عائب ولا طاعن وفيه تنبيه على حق المؤمن ، إذا سمع قالة في أخيه ،ان يبني الأمر فيها على الظن ، لا على الشك ، وأن يقول بملء فيه – بناء على  ظن الخير – هذا إفك مبين ، هكذا باللفظ المصرح ببراءة ساحتة كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال .
وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمع بأخوات ( [95] )
وبعد هذا البيان ، وهذا الأدب الذي كان يجب عليهم أن يتأدبوا به ، زجرتهم السورة الكريمة بعدة زواجر :
الزجر الأول : قوله تعالى : { لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } ( [96]) والمعنى : هلا جاء هؤلاء الذين رموا أم المؤمنين بأربعة شهداء يشهدون بصحة ما قالوا ، فإذا لم يأتوا بهم فهم في شرع الله كاذبون ، وفي حكم الله أفاكون .
فالآية الكريمة توبخهم على ما قالوا وتحتج عليهم بأنهم كاذبون فيما رموا به أم المؤمنين ، وجزاء من فعل ذلك جلده ثمانين ، ومن عاد بعد بيان القرآن فهو من الكافرين .
يقول البغوي رحمه الله : فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين ، إذ لم يأتوا بالشهداء ، ومن كذب ، فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أم لم يأت ؟
قيل عند الله ، أي : في حكم الله وقيل : عناه : كذبوهم بأمر الله وقيل : هذا في حق عائشة ، ومعناه : أولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي ( [97] )
ومن هنا كان الحد وكان العذاب العظيم في الدنيا .
يقول بعض الشعراء :
لقـــد ذاق حــســان الذي كان أهله               
حمنة إذ قالوا هجير( [98] ) ومسطعح
تعاطو برجم ( [99] ) الغيب زوج نبيهم         
وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحو( [100] )
وآذوا رسول الله فيها فجللوا                    
مخازي تبقي عمموها وفضحوا
كما ابن سلول ذاق في الحد خزية                       
كما خاض في قول من الإفك يفصح
فصبت عليهم محصدات ( [101] ) كأنها
شآبيب ( [102] ) مزن من ذرى المزن تسفح ( [103] )
واعتذر حسان رضي الله عنه من إفكه فقال :
حصان رزان ما تزن بريئة ( [104] )
                             وتصبح غرثي من لحوم الغوافل ( [105] )
مهذبة قد طيب الله خيمها
                             وطهرها من كل سوء وباطل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
                             كرام المساعي مجدهم غير زائل
فإن كنت قد قلت الذي قد أتاكم
                             فلا رفعن سوطي إلى أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
                             لآل رسول الله زين المحافل
وإن الذي قد قيل ليس بلائط ( [106] )
                             ولكنه قول امرئ غير محال ( [107] )
من فضل الله ورحمته قبول توبة العاصين :
قال تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( [108] ) 
الزجر الثاني :
هذه الآية في المؤمنين الذين خاضوا في الإفك ، انخداعا بقول المنافقين الذين بدؤوا بالإفك وأشاعوه كراهية للإسلام وحقداً على الرسول صلى الله عليه وسلم وطعناً في بيت النبوة لنهم يعتقدون ان النبي صلى الله عليه وسلم سلبهم ملكا وقوة ومن هنا تزجر اآية القاذفين ، وتذكرهم ، بأنه لاولا فضل الله عليهم بنعمه الجليلة ، وإمهالهم حتى يتوبوا في الدنيا ، قبل الموت ، ولولا رحمته بهم وعفوه عنهم في الآخرة ، لآصابهم عذاب عظيم ، بسبب خوضهم مع الخائضين في حادث الإفك المبين الذي اهتزت له السموات والأرضون ، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى : وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسبب التوبة ، كمسطح ، وحسان ، وحمنة بنت جحش ، أخت زينب ، فأما من خاض فيه من المنافقين ، كعبد الله بن أبي وأضرابه ، فليس أولئك مرادين في هذه الآية ، لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ، ما يعادل هذا ، ولا ما يعارضه ، وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقا مشروطا بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه .
الزجر الثالث :
قال تعالى:{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [109] 
القراءات الواردة :
1-  قرأ عامة القراء العشرة ( تلقونه ) بفتح الثلاث وشد القاف .                                                  ومعناها : يأخذه بعضكم من بعض ، يقال : تلقي القول وتلقنه ، والأصل : ( تلقونه ) وهي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود .
2-  وقراءة ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما ، وابن يعمر وعثمان الثقفي : ( تلقونه ) بفتح التاء وكسر اللام ، وضم القاف . وفي معناها قولان :
أ - أنها من الولق ، الذي هو الأسراع بالشئ كعدد في أثر عدد ، وكلام في أثر كلام .  
    ويقال : ولق في سيره ، إذا أسرع .
ب – أنها من قول العرب : ولق الرجل يلق ولقاء ، إذا كذب واستمر على كذبه .
    3 – وقرأ ابن السميفع : ( إذ تلقونه ) بضم التاء والقاف وإسكان اللام ، وهاتان القراءتان آحاديتان.
والمعنى : تلقونه . مضارع ألقي ، أي تلقونه من أفواهكم .
4- وقرأت ام سفيان بن عيينة : ( تثقفونه ) بتاءين مفتوحتين ، وفاء بعد القاف
    ومعناها : تجمعونه وتحبطونه من عند انفسكم ، ولا أصل له عند الله تعالى .
5- وقرأت أم سفيان : ( تثقفونه ) بالثاء المثلثة بعد التاء ، والفاء بعد القاف – وكانت على قراءة 
ابن مسعود.ومعناها : من ثقفت الشئ ،إذا طلبته وأدركته ، أي: تتصيدون الكلام في الإفك من هنا ومن هنا [110] 
يقول الدكتور / سالم : جميع هذه المعاني يصدق بعضها بعضا ، ولا تمانع بينها ، فالقراءات وسعت معنى الآية ، وجعلت لها أكثر من معنى ، وجميعها يصدق على أهل الإفك ( [111] ) .
في هذه الآية ووصف الله القاذفين بارتكاب ثلاثة ذنوب عظام كلها كذب ، ولا يثبت بها حكم ، ولا تبني عليها قاعدة حتى في عرف الناس بعضهم مع بعض ، ومن هنا ، كان العذاب لاولا فضل الله ورحمته .
أ _ أنه يرويه بعضكم عن بعض دون تثبيت ولا روية وهذا من الكذب البين والبهتان المبين .
قال الكلبي : زذلك أن الرجل منهم يلقي الرجل ، فيقول : بلغني كذا وكذا ، يتلقونه تلقيا ( [112] ) .
يتلقونه ، ويلقونه ، ويسرعون إلى الكذب في شأن من كاها النبي صلى الله عليه وسلم بأم عبد الله ( [113] ) وتزوجها بأمر الله ، وأحبها بمحبة الله ، وفي لحافها مع الرسول نزل جبريل بالقرآن ورأته دون سواها من أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فهم كانوا يلقونه ويرددونه بغية انتشاره بين الناس ، وهذه خطة المنافقين دون أن يفطن إليها من خاض في الإفك من المؤمنين .
ب_ أنهم يقولون ذلك دون علم ولا برهان ، والإسلام لا يعترف إلا بالأدلة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار يقول صاحب الكاشف : فإن قلت : ما معنى ( بأفواهكم ) والقول لا يكون إلا بالفم ، قلت : معناه أن الشئ المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ،ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب ( [114] )
كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ  }( [115] ) .
جـ_ أنهم رووا هذا الحديث ، ظانين ، أنه كسائر الأحاديث التي يتناجون بها ، ويتسامرون ، وأنه لا عقاب على ذلك ناسين أن المتحدث عنها من أفضل نساء العالمين وزوج الرسول المين ، وأم المؤمنين .
يقول أبو عمران الواعظ الندلسي على لسان عائشة :
ما شان أم المؤمنين وشاني
                   هدي المحب لها وضل الشاني
إني أقول مبينا عن فضلها
                   ومترجما عن قولها بلساني
يا مبغضي لا تأت قبر محمد
                   فالبيت بيتي والمكان مكاني
غني خصصت على نساء محمد
                   بصفات برتحتهن معاني
وسبقتهن إل الفضائل كلها
                   فالسبق سبقي والعنان عناني
مرض النبي ومات بين ترائبي
                   فاليوم يومي والزمان زماني
زوجي رسول الله لم أر غيره
                   الله زوجني به وحباني
وأتاه جبريل المين بصورتي
                   وأحبني المختار حين رآني
ان بكره العذراء عندي سره
                   وضجيعه في منزل قمران
وتكلم الله العظيم بحجتي
                   وبراءتي في محكم القرآن ( [116] )
ومن هنا فإن الكلام عن أم المؤمنين بما يشين عند الله عظيم فقد كان القاذفون يستصغرون ذلك وهو عظيم من العظائم ويدل على امور ثلاثة :
الأول : يدل على ان القذف من الكبائر لقوله تعالى : { وهو عند الله عظيم } .
الثاني : نبه بقوله : ( وتحسبوه هينا ) على أن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه ، 
          بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمها ، من حيث كونها عظيما .
الثالث :  الواجب على المكلف في كل محرم ، أن يستعظم الإقدام عليه ، إذ لا يأمن انه من  
          الكبائر ، وقيل : لا صغيرة مع افصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ( [117] ) .
الأدب الثاني :  قال تعالى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [118] .
وجههم الله تعالى في هذه الآية إلى ما كان ينبغي عليهم قوله حين سمعوا بتلك القصة الملفقة ، ضد بيت النبوة ، فقال : هلا إذا سمعتم قذف زوج نبيكم صلى الله عليه وسلم أمسكتم وقلتم : ما يجوز ان نتكلم بهذا الكذب ، منزهين الله قائلين ، سبحانك يا الله أن تكون زوجة النبي كذلك ، هذا كذب جلي لا يصدر إلا من غبي ، او حاقد دعي ، وكان هذا بهتانا عظيما ، لآنه يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يؤذي ملك الملوك ، وعلام الغيوب ، ومن يؤذ الله ورسوله، فهو ملعون{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً } [119]
كما يتعرض لفضلي النساء بالأذى والطعن في شرفها ، وهي العفيفة الكريمة ، والمحصنة المنيعة ، والغافلة عن المعصية ، والمؤمنة الأمينة ، ومن يتنقصها بعذ ذلك ، فهو صاحب نفس أثيمة ، ومن يستمر بعد البراءة في قذفها فهو في النار مثل الشيعة .
يقول ابن كثير رحمه الله : هذا تأديب آخر ، بعد الأول بالظن خيراً .
أي : إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة ، فالأولى ينبغي الظن بهم خيراً ، وألا يشعر نفسه سوي ذلك ، ثم إن علق بنفسه شئ من ذلك – وسوسة أو خيالاً – فلا ينبغي أن يتكلم به .
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تقل أو تعمل " [120])
فكان الواجب ان يقولوا :
 ما ينبغي لنا ان نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) سبحان الله ان يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله ،  وحليلة خليله صلى الله عليه وسلم ( [121] ) .
والله خفرني ( [122] ) وعظم حرمتي
                   وعلى لسان نبيه براني
والله في القرآن قد لعن الذي
                   بعد البراءة ( [123]  ) بالقبيح رماني
والله وبخ من أراد تنقصي
                   إفكا وسبح ( [124] ) نفسه في شأني
إني لمحصنة الإزرار بريئة
                   ودليل حسن طهارتي إحصاني ( [125] )
والله أحصنني بخاتم رسله
                   وأذل أهل الإفك والبهتان
وسمعت وحي الله عند محمد
                   من جبرئيل ونوره يغثاني
من ذا يفاخرني وينكر صحبتي
                   ومحمد في حجره رباني
وأخذت عن أبوي دين محمد
                   وهما على الإسلام مصطحبان ( [126] )
الزجر الرابع : قال تعالى : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } ( [127] ) .
هذا وعيد شديد ، وتهديد بليغ لمن عاد هذا القذف لواحدة من امهات المؤمنين اللائي يقول في شأنهن الله تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [128] في الحرمة والاحترام والتوفير والإعظام ولكن لا تجوز الخلوة بهن ( [129] ) .
كما بين الله سبحانه : أنه لا يشبههن في المنزلة السامية والمكانة العالية ، أحد من نساء الأمة  فقال : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ }( [130] )
كما بين سبحانه انه لا يجوز لأحد كائنا من كان أن يتزوج من بعده بإحداهن ، لأن ذلك عند الله أمر عظيم لا يقدر قدره ، ومن في الدنيا يكون نداّ للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فهن أزواجه في الدنيا والآخرة ، وهن أمهات المؤمنين .
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً }( [131] )
روى بن جرير قال : حدثنا داود عن عامر : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، مات وقد ملك ( قيلة بنت الأشعت بن قيس ) فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشق ذلك على أبي بكر رضي الله عنه مشقة شديدة ، فقال عمر : يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنها لم يخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحجبها ، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها : قال : فاطمأن أبو بكر ، وسكن ( [132] )
ومن أجل هذا التعظيم والإجلال ، إكراما لسيد ولد آدم يغضب لعائشة ذو الجلال والإكرام ، ويقول لهؤلاء القاذفين ولكل من تسول له نفسه بذلك ، إي يوم الدين : ينصحكم الله وينهاكم لمثله أبداً ، سواء في ذلك من قال ، ومن سمع ولم ينكر ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر .
يقول ابن العربي رحمه الله : قوله تعالى : ( لمثله ) يعني عائشة ، لأن النبي مثله لا يكون في المقول عنه بعينه ، او فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لما في ذلك من إذابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه واهله وذلك كفر من فاعله .
ويقول مالك : من سب أبا بكر وعمر ، أًًَدّبَ ، ومن سب عائشة قتل ، لأن الله يقول : ( يعظكم الله .... الآية فمن سب عائشة ، فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن ، قتل .
ويقول أصحاب الشافعي : من سب عائشة ، أدب ، كما في سائر المؤمنين ، وليس قوله تعالى:{ إن كنتم مؤمنين } في عائشة ، لأن ذلك كفر ، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسسلم : " لا يؤمن من لا يأمن جاره بواتقه " ولو كان سلب الإيمان في سب عائشة حقيقة ، لكان سلبه في قوله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حتى يزني وهو مؤمن " حقيقة .
ويدحض ذلك ابن العربي ويرفضه فيقول: ليس كما زعمتم ، إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ، ومن كذب الله فهو كافر ، فهذا طريق قول مالك ، وهي سبيل الآئمة لأهل البصائر ، ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه ، لكان جزاؤه الأدب ( [133] ) .
أقول : عن سب الصحابة عموما ، ولا سيما الخلفاء الأربعة أمر عظيم يؤدي إلى الكفر والخروج من الملة ، لأن الله تعالى أخبر بأن رضي الله عنهم فقال : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ( [134] )

وإلى لقاء قريب
أ . د / محمود مهني محمود
استاذ علم التفسير بجامعة أسيوط
وعضو مجمع البحوث الإسلامية


[1] - فتح الباري جـ 6 ص 437 والآية من سورة الأحزاب رقم 69 م
[2] - المرجع السابق جـ 6 ص 438
[3] - الأنعام آية 124
[4] - الحج آية 75
[5] - القصص آية 68
[6] - صحيح الجامع الصغير للألباني جـ5 ص 90 المكتب الإسلامي – بيروت
[7] - المرجع السابق جـ4 ص 199
[8] - الإسراء آية 3
[9] - النحل : 120 - 122
[10] - الأنبياء : آية 85
[11] - مريم : 54- 55
[12] - القصص الآية 26
[13] - القلم آية 4
[14] - آل عمران آية 159
[15] - التوبة 128
[16] - صحيح الجامع جـ2 ص 22
[17] - فتح الباري جـ6 ص 566
[18] - النجم : 10-11
[19] - أول الفرقان
[20] - أول الإسراء
[21] - الجن : آية 19
[22] - مشكاة المصابيح للتبريزي جـ3 ص 127 المكتب الإسلامي – دمشق
[23] - البقرة : آية 129
[24] - الصف : آية 6
[25] - الأعراف الآيتان 156-157
[26] - انظر : الجواب الصحيح لرحمة الله الهندي جـ4 ص 3 مؤسسة المدني – القاهرة
[27] - آل العمران :آية 42
[28] - الأنبياء : آية 91
[29] - التحريم : آية 12
[30] - مسلم بشرح النووي جـ15 ص 202-203 باب فضل عائشة .
[31] - البخاري جـ5 ص 113
[32] - البخاري جـ4 ص 221
[33] - مسند الإمام أحمد جـ6 ص 39
[34] -البخاري جـ6 ص 158
[35] - رواه الحاكم في المستدرك جـ4 ص 70
[36] - النور : آية 11
[37] - الجزع : الخرز ، وظفار مدينة باليمن لحمير
[38] - كان عمرها اثني عشر عاما
[39] - العلقة : الشي اليسير
[40] - أي : سار أول الليل حتى أصبح
[41] - أي دخلو في وقت الهاجرة
[42] - الكساء وهو – المرط – بكسر الميم وسكون الراء
[43] - أي : يا هذه _ وهذه اللفظة مختصة بالنداء
[44] - لا ينقطع
[45] - تأخر الوحي
[46] - أي أعيبها به ، وأطعن به عليها
[47] - الشاة التي تعلف في البيوت
[48] - من يقوم بعذري إذا كافأته بسوء صنيعه
[49] - حملته الأنفة والغضب على الجهل
[50] - يوسف آية 18
[51] - ما برج
[52] - شدة الكرب من ثقل الوحي
[53] - أي مثل اللؤلؤ
[54] - النور آية 22
[55] - أي تعاليني وتفاخرني
[56] -صحيح البخاري جـ6 ص 95 – 96 باب تفسير سورة يوسف ، ومسلم جـ 4 ص 2129 – 2136 – كتاب التوبة – باب : في حديث الإفك وقبول توبة القاذف
[57] - الصافات آية 86
[58] - انظر فتح القدير جـ 4 ص 497
[59] - انظر : محاسن التأويل جـ5 ص 270
[60] - انظر التفسير الكبير جـ 8 ص 337
[61] - يوسف آية 8
[62] لسان العرب جـ4 ص 2965
[63] - زاد المسير لابن الجوزي جـ6 ص 17
[64] - البخاري جـ2 ص 343
[65] - - انظر تفسير سورة النور للمودودي ص 126
[66] - الأنبياء آية 35
[67] - الأنبياء : آيتان 83- 84
[68] - يوسف : آية 42
[69] - يوسف آية : 56
[70] - الصف آية 6
[71] - آل عمران لآيتان 54-55
[72] - رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي
[73] - فصلت آية 42
[74] - ابن كثير جـ6 ص 24- 25
[75] -ابن جرير جـ 18 ص 70
[76] - انظر : القراءات وأثرها في التفسير جـ2 ص 611-612 إعداد محمد بن عمر – دار الهجرة – السعودية ط أولى .
[77] - البخاري جـ8 ص 343
[78] - زاد المسير جـ6 ص 19
[79] - ديوان حسان بن ثابت الأنصاري ، تحقيق : د أحمد الفاضل ، ط دار الفكر اللبناني ، ص 16 ، 17
[80]  ابن جرير جـ18 ص 89
[81] - تفسير سورة النور ص 130
[82] - ابن كثير جـ 6 ص 25
[83] - انظر القرطبي وفتح القدير جـ4 ص 16
[84] - سنن أبي داود – كتاب الحدود ، باب القذف جـ4 ص 162
[85] - النور آية 12
[86] -المنافقون آية 10
[87] - يونس آية 98
[88] - سبأ آية 31
[89] - النور آية 10
[90] - ص آية 24
[91] - الأنبياء آية 87
[92] - البقرة آية 46
[93] - التفسير الكبير جـ8 ص 341
[94] - انظر المحرر الوجيز جـ 4 ص 170
[95] - محاسن التأويل جـ 5 ص 271 نقلاً عن الكاشف
[96] - النور آية 13
[97] - معالم التنزيل في التفسير والتأويل جـ4 ص 183 – دار الفكر لبيروت
[98] -أي : قولا قبيحا فاحشا
[99] - الرجم : الكلام بالظن
[100] - البرح : شدة الأذي ، أي جاءوا بأمر شديد الأذي والإثم
[101] - أي سياط محكمة الفتل شديدات
[102] - جمع شؤبوب وهو الدفعة من المطر
[103] - اختصار النكت للماوردي جـ 2 ص 392 تحقيق د / عبد الله الوهيبي
[104] - حصان : عفيفة – ما تزن _ ما تتهم – غرثي : جائعة
[105] - الغوافل : جمع غافلة وهي الغافلة القلب من الشر : لا تغتاب أحداً
[106] - اللائط : هو الشيء اللاصق
[107] - المحال : الماشي بالنميمة وانظر : المرجع السابق جـ2 ص 393
[108] - النور آية 14
[109] - النور آية 15
[110] - انظر القراءات وأثرها في التفسير جـ2 ص 611-612
[111] - المرجع السابق جـ2 ص 614
[112] - معالم التنزيل جـ4 ص 183
[113] - مسند الأمام أحمد جـ6 ص 107
[114] - انظر : محاسن التأويل جـ5 ص 272
[115] - آل عمران آية 167
[116] - قصيدة الواعظ الندلسي في مناقب أم المؤمنين الصديقة عائشة ص 53 -54 تحقيق الدكتور فهد الرومي
[117] - التفسير الكبير جـ8 ص 343
[118] - النور آية 16
[119] - الأحزاب آية 57
[120] - مسلم جـ 1 ص 81 – كتاب الإيمان – باب : تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر
[121]  ابن كثير جـ 6 ص 28 - 29
[122] - الخفر محركة : شدة الحياء
[123] -  إشارة إلى قوله تعالى : { الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ } النور آية 23
[124] -  إشارة إلى قوله تعالى :{  سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } النور آية 16
[125] - الإحصان : تزويجها بالرسول صلى الله عليه وسلم
[126] - انظر : قصيدة الواعظ الأندلس وشرح محققها ص 55-56
[127] - النور آية 17
[128] - الأحزاب آية 6
[129] - ابن كثير جـ 6 ص 381
[130] - الأحزاب آية 32
[131] - الأحزاب 53
[132] - ابن كثير جـ6 ص 446
[133] - انظر : أحكام القرآن جـ 3 ص 366
[134] التوبة آية 100